وسقط الحد الفاصل /
قراءة في بعض لوحات معرض " أول مرة " في الملتقى الثالث لشباب الفنانين التشكيليين بمكتبة الأسكندرية
بعدما انتهى كل شيء على سطح الأرض ، التقط ذلك ذلك القادم من كوكبٍ بعيد من بين الحطام لوحة ، و تسمر أمامها فغالبا قد داخله إحساس " النهاية " و ما وصمه من حنين ، من وجودٍ تقرأ في عينيه الرحيل القادم الذي لا مفر منه ، ما وصمه من مشاعر و علاقات منحها الجنس البائد صفة " الإنسانية " ... ما وصمه من لحظات براءة و صفاء ، و لحظات قهر و إغتيال في أوقات أخرى ... و غالبا ستكون تلك اللوحة هي إحدى لوحات الفنانة " شيرين مصطفى " المعروضة الآن ضمن معرض " أول مرة " في مكتبة الإسكندرية ذلك القادم من كوكب بعيد الذي لم ير إنسانا من قبل ، و أتى إلى الأرض بعد كلمة " النهاية " للجنس البشري ؛ حتما سيفهم بعمق معنى الإنسانية بلحظاتها المتلونة : حنينها ، دهشتها ، طفولتها المستترة - ما هو حي منها ، و ما قد أُغتصب - ، فرحتها ، انكسارها ، برائتها --- و ذلك عندما يتأمل قليلا اللوحات بذلك الركن المعبد الفرعوني الذي تملأه الرموز و الحروف العربية هو المكان الذي تقيم في أرجائه " شيرين مصطفى " طقوسها الفنية داخل اللوحة ، فتُشهِد ذلك القادم البعيد على طقس زواج ارتدى فيه فستانُ الفرح جسد َ العروس الطفل الذي تبدى عاريا ، و ارتسم طفلٌ شريد حيران مشاكس على الوجه المطموس للعريس أو لتختزل له / للقادم البعيد / الإنسانية في لوحة ، و قد شهدت عليها قصاصات صور و سطور جرائد قديمة ، و مناطق جبسية سطر عليها القلم الرصاص عبارات و رسومات طفولية ، و ألوان موزعة بمهارة لا تتعثر بها التلقائية المصاحبة كثيرون يضعون أفكارهم بأعمالهم ، و كثيرون يضعون تقنياتهم و ألوانهم " شيرين مصطفى " من أولئك القليلين الذين يضعون إحساسهم و رؤيتهم للحياة في فنهم
****************
أصر أحدهم في تحدي أن ( أشرح ) له ما يمكن أن تعنيه هذه اللوحات ، أو ما يشكله الفن من أهمية حِرتُ في إيجاد البداية و أمام الركن الخاص بالفنان " مصطفى سمير مصطفى " ، وجدت أحد المفاتيح لقفل " البداية " : إنها الأسئلة التي يقتحم بها الفن تبلدنا و سكوننا يستخدم كل فنان رموزه التي يبني بها عالمه الخاص داخل لوحاته ، فتبدأ الأسئلة نشاطها المتحمس الذي يلهم إجابات متعددة لكل منا :
* لماذا يستخدم هذا الفنان " الثور " دوما في لوحاته ؟ عم يعبر ؟
* هل هي رؤيته للإنسان في صراعه اليومي مع أحماله التي تفوق تحمله فتعجزه عن الحركة على كل ذلك الجهد المضني الذي يبذله ؟ * أم هي رؤيته لذاته / و للإنسان أيضا / كقوة و طاقة محبوسة غير قادرة على تخطي حوائطها المطبقة عليها ؟
* لماذا يقيد مصابيحه ؟ و يقلب سفينته ؟
* لماذا يتماهى المصباح و السفينه ، فلا تستطيع تمييزا بينهما ؟
مثل هذه الأسئلة على مستوى " الطرح " الذي تقدمه اللوحات على أحد مستوياتها و هو مستوى " الشكل " أو " العنصر البصري " الواضح الذي قد يتعامل معه في البداية المتلقي و تطرح أسئلة أخرى نفسها فيما يتعلق باللون و التقنية و الإيقاع فليدع كل منا نفسه منطلقا بحرية مع تساؤلاته التي يقوده إليها الفن
*************
استغبيتُ نفسي جداً / تلك التي كانت تظن أن مشاهدة اللوحات الفنية على النت أو على الصفحات الورقية قد يغني عن مشاهدتها وجها لوجه / أمام لوحات الفنانة " ريهام سامي النحاس " ....
نعم يا عزيزتي ... فالمسألة لا تكمن في الشكل و إيقاعه فحسب ، لا تكمن في الألوان و طاقتها الجمالية و الانفعالية فحسب ، لا تكمن في توزيع الظل و النور فحسب ، لا تكمن فيما تقوله اللوحة فحسب بل تلك الخبرة و ذلك الإحساس اللذين تنقلهما اللوحة يكمنان بشكل كبير في المواد المستخدمة ، في نوع السطح و الألوان و كتلتها المختلفة التوزيع و الطبقات على سطح اللوحة ، يكمنان في كلمة " الملمس " التي كثيرا ما صادفتها في الكتب و المجلات ، و و لم أفهم بالضبط حينها ماذا تعني ؟ هل يجب " تحسس " اللوحة مثلا لمعرفة " ملمسها " ؟ الآن أدرك أن العين قادرة على اللمس العميق بأكثر مما يمكن أن تفعل الأصابع لا ، ليست العين ، بل هي " الروح " التي تلمس كل هذا " الحنين " المختزن في توزيع كتل الألوان و بطشها في أجساد البيوت القديمة
***************
بيوت برضة " نظرة أختي الصغيرة المتعجلة للوحات جعلها تضع كل البيض في سلة واحدة لكن " بيوت " " الفنان " علاء أبو حمد عبد الستار " تختلف يقينا عن تلك الخاصة بالفنانة " ريهام " البيوت في لوحات "علاء" تختزن مشاعرا أخرى ليس أحدها الحنين لوحاته تستدعي الهجر و الفقدان و الشعور الحاسم بالنهايات بيوت مهجورة لها حكمتها الخاصة التي تهمس بها مبارشة إلى أعماقك
**************
ما جدوى الفن ؟ لي مثلا ؟ هل هي فقط تلك المتعة التي أستشعرها وذلك الإحساس بالإشراق والتلذذ اللذان يضيئان في عقلي عندما أتواصل مع جمالياته / اللوحة في هذه الحالة / ؟
أم هي تلك الخبرة الإنسانية / الجمالية التي ينقلني لها الفن ، فأترك ذاتي و اسمي و حياتي ، و أطل على العالم عبر عيون أخرى تراه بشكل آخر، و ترى منه أجزاءا ربما لا أراها، أو لا أراها بنفس الشكل ؟
هل هو السعي وراء أن أحيا أكثر من حياة مع كل لوحة أو قصيدة .. و بإختصار كل ( عمل فني ) / كما قال نجيب محفوظ يوما عن الكتب ؟
هل هو الإصرار على إيقاظ و اكتشاف تميزي الإنساني المخبوء من خلال تواصلي مع ما استطاعه الآخرون من تميز و إبداع / كما يقول الناقد " ستيفن سبندر" ؟
هل هي الحاجة الدائمة إلى التواصل الإنساني في صورة راقية و نقية تماما ، قد تجرد فيها من مصالحه وأهوائه وأطماعه ، وصار تواصلا إنسانيا بحتا لا يهم فيه سوى الفهم، التقدير، والتعاطف ؟
هل هي تلك القوة التي يمدنا بها الفن عندما يكشف بعضا من ملامحنا المخبوءة للنور والهواء؟
هل هي مناطق الضعف بداخلنا التي يستطيع الفنان التعبير عنها بصدق ودون خجل ليطهرنا من إنهزاماتنا ؟
هل هو ذلك الدرس الأساسي الذي يعلمنا إياه الفن، وتُصدِّق عليه الحياة بأن لكل منا خبرته الخاصة ورؤيته الخاصة لحياة و لمن حوله ، وأن تلك الخبرة و تلك الرؤية - مهما تعارضتا معنا - لا يخضعان لمبدأ الصدق والكذب ، أو الصواب و الخطأ ، بل هي تعددية الحياة التي تمنح وتسع كل الرؤى وكل الخبرات ؟
هل لأنه يطالبنا دوما بذلك المطلب الإنساني المُلح : بأن "نشعر" و "نحس" بالآخرين ... مخاوفهم ، آمالهم ، آلامهم ، بصرف النظر عن كوننا نشترك معهم في هذه المخاوف / الآمال / الآلام أم لا ؟
تدافعت الأسئلة أمام لوحات الفنانة "سمر السيد البراوي" التي تعلن بوضوح رؤيتها لبنات جنسها : لأطماعهن، آمالهن، ومخاوفهن ، بل ... و لأقدارهن أيضا الأوجه النسائية الكثيرة توقفك بحسم بنظراتها الحاقدة الموغلة في البغض، تنهش بأظفارها لحما نيئا لضحية معلقة وفي لوحة أخرى تتبدى نظراتهن هجومية ، أو حائرة ، أو مقهورة منصاعة ، بينما تقفن جميعهن حول عروسٍ بفستانها الأبيض ، بينما تغرق اللوحة كلها في لون وملمس الدم لوحاتٍ تعبر ليس فقط عن رؤية كابوسية لعالم المرأة من خلال عيون أحد أفراده ، بل تداخلك كل لوحة منهن - مهما كان الرفض لتلك الرؤية أو عدم الاقتناع بها - بإحساسها الخاص الذي تستشعر معه خبرة الألم ، الشعور بعدم الأمن ، والإحساس بالحصار .... لتتفهم مشاعرا إنسانية / قد تكون سلبية / لكنها قطعا هنا وهناك في هذا العالم
*****************
في هذا المعرض الذي يضم سبعة عشر فنانا و فنانة من المواهب الشابة التي يسلط عليها مركز الفنون بمكتبة الأسكندرية الضوء ربما ل "أول مرة" ، يسقط الحد الفاصل ما بين الفن و الحياة فتطالع المرء المشاعر المتعددة التي تقتحمه من اللوحات، ويرى بانوراما حياتية مع كلٍ منها، و قد يجد نفسه متماهيا مع إحداها ، هاتفا ً أمام إحدى اللوحات - كما فعلت إحدى زائرات المعرض - : " أنا أهوه ... دي حياتي ... بالظبط "
وكما ألمحت من قبل ، فاللوحات لا " تقول أشياء" من خلال مجموعة من العناصر البصرية فحسب ، بل هي " فن " يحاول عبر أدواته نقل الخبرة الجمالية / الإنسانية للفنان إلى الجمهور ليشاركها معه ... تلك الخبرة التي يمتزج فيها الفكر بالمشاعر بالإحساس الجمالي بالموقف تجاه العالم و تجاه الذات و تجاه الآخرين
فإذا ما قلت مثلا أن نظرة الفنان "أحمد فريد" للحياة بأنها فخ يطير تجاهه ( لأسفل ) كل من له القدرة على التحليق ، كان هذا حقا لا شيء أمام أن يقتحمك هذا الإحساس وأنت تتأمل بعض لوحاته، و ترى في بعضها الآخر تجريبه " البيكاسوي " في التعامل مع الوجوه ، والذي يفصح عن كونه خطوة تجرب تقنية بعينها بغرض الوصول لخطوة أخرى مستقبلا - نتمنى –
نجد رؤية " لمياء مغازي " للعالم الأنثوي ذاته الذي سبرت أغواره أخريات معها في نفس المعرض ، لكن برؤية مغايرة تماما تتخذ من أشياء الأنثى حضورا لها حتى في غيابها
نجد " ندا خليل " و شعورها بنمطية الحياة و جمودها حتى في مختلف حالاتها : العنصر البشري المتكرر الذي يتخذ نفس الحركة / الفعل / الشكل / الملابس / الحالة
" شيماء محمد " و نفس العالم الأنثوي الذي تنظر إليه من زاويتها الخاصة هي الأخرى إلى تلك الأنثى المحتجزة خلف حاجز شفاف تستميت للخروج منه ، و لا نعرف لأي نتيجة ستحسم محاولات الخروج ... لتنلك الأنثى و علاقتها الملتبسة بجسدها : موطن تفردها و جاذبيتها ، و موطن خجلها و إنكسارها في الوقت ذاته
"هالة أبو شادي" و لعب ببراعة على النصف الأسفل لوجه طفلة تُعد للزواج ، لنرى القهر الإجتماعي ممثلا في عدة لقطات فوتوغرافية لمساحة ضئيلة من ملامح الطفلة ( الأنف و الفم و الذقن و الرقبة ) ، مع بعض الإكسسوار ، لتصيغ إبداعا مميزا التصوير ، النحت ، الحفر ، التصوير الفوتوغرافي ، و الخزف مسارات متعددة لأسماء أخرى
و إبداعات أخرى تطالعنا بعوالمها مع ياسمين زكريا الكاتب ، على سعيد حجازي ، شروق طلعت ، منى حسين ، محمد فوزي ، أحمد الشناوي ، علي سعيد ، محمد البزرة ، ليقدم كل منهم هم أيضا رؤى أخرى للحياة.
المعرض مستمر حتى 5 أغسطس 2008 بمركز الفنون بمكتبة الأسكندرية من التاسعة صباحا و حتى التاسعة مساءا