كتحفةٍ فنية نادرة ، يأسرني ذلك الإعلان ، و ربما أذهب لأشاهده مخصوص إذا سمعته و أنا بعيد عن التلفزيون
" مامتي " السوبر ماما " "
يقولها الطفل الصغير في ثقة شديدة و حب و إمتنان ، و هو يقرر أنه لن يبكي كبقية الأطفال في الروضة ، لأن أمه معه بالفعل ، فهو يأخذ اطمئنانه بوجود أمه من رائحة المسحوق الذي غسلت به ملابسه
---------
أعتقد أن هذا الإعلان ما هو إلا تعبير رائع عن تلك النظرية النفسية التي تقول بأن منح الرعاية المستمرة و الكافية للأطفال في الصغر يُنمي لديهم الإحساس باستمرارية الأشياء و عدم الخوف من فقدانها ، و يمنحهم الأمن في المستقبل كناضجين ، لأنه يجعلهم يشعرون أنهم يحيون في عالم مستقر دونما خوف من الإنفصال عن الآخرين / أو هجران هؤلاء الآخرين لهم / أو خوف من التلاشي فيهم
و ذلك لأن قدرتهم العقلية على إحلال الرموز مكان أولئك الذين يمنحونهم الرعاية و الاهتمام تنمو تدريجيا أكثر من غيرهم ، و بالتالي يستطيعون التسامح مع غيابهم الفعلي مكتفين بوجودهم الرمزي ( و تعلم الأطفال للغة هو أول و أهم هذه المراحل )
---------
و ببساطة يوجه الإعلان رسالته للأم بأن ( مسحوق غسيلها ) هو جزء من وجودها الرمزي في حياة طفلها و الذي يمكن أن يمنحه الأمان و الثقة في غيابها ، و أن ذلك المسحوق الذي يعلنون عنه مؤهل تماما ليستحق أن يؤدي هذا الدور الحيوي و المهم
--------------------
ليس هذا هو الإعلان الوحيد الذي حاز إعجابي و تقديري الشديدين
---------
هناك إعلان آخر لل " سوبر ماما " القادرة على ( بعث ) و ( إحياء ) آمال طفلها و بهجته بإعادة ملابسه إلى بياضها و رونقها القديم
-------
إعلانات ال " سوبر ماما " هي النسخة الخليجية من الإعلان عن هذا المنتج
أما النسخة المصرية منه ، فتتمثل في سلسلة إعلانات تفرق بوضوح بين سلوكين في الحياة : سلوك واثق مُحِب مقدام مُساعد ، و سلوك آخر متردد خائف متشكك عاجز عن الفعل و عن إثبات وجوده
و بالطبع يتبنى مسحوق الغسيل نوعية السلوك الأول ، مُصرحا أنه يساعد على تحقيقه
فهؤلاء بضعة أطفال يلعبون سويا كرة القدم ، يواجه بعضهم بالتوبيخ و اللوم و الصراخ في وجوههم من قِبَل أمهم
بينما ذلك الطفل الآخر الذي كان يلعب معهم و يدخل هو أيضا بيته و ملابسه متسخة ، و يشعر بالذنب لذلك و يتحاشى نظرات أمه ، تستقبله هي مرحبة و تبتسم في وجهه مربتة َ على رأسه
:
" و لا يهمك يا حبيبي -- المهم غلبت في الماتش ؟ "
------
و في إعلان آخر يساعد رجلان أحدهم في تغيير إطار سيارته ، تتسخ ملابسهما
يُواجه أحدهما بالتقطيب و الضيق و ربما ( كلمتين مالهمش لزمة ) من زوجته
بينما شعر الآخر بالتقبل و المساندة عندما عاد إلى المنزل
و
" نهارك أبيض "
بإبتسامة متفهمة
و النتيجة بالطبع إحجام الأول عن أي مساعدة مستقبلية للآخرين يمكنها اجتلاب هذا اللوم عليه ، و تحفيز الآخر للمساعدة دوما و شعوره بالثقة لأنه قادر عليها و يستطيع تقديمها
-------
و بإعلان ثالث ، يُقدم تلميذ الإبتدائي على التجربة في حصة العلوم ، و على زراعة نبتته و العناية بها - بصرف النظر عن اتساخ ملابسه من ذلك - ، و استمرار تعلمه من التجربة و الخطأ ، ثم التجربة ثانية
بينما يحجم زميله عن المشاركة في عملية التعلم و ممارسة متعة الاكتشاف من خلال التجربة ، بل ؛ و تعلم إختلاق التبريرات
:
" دي --- دي-- دي تحفة فنية "
----------------
تُمرر هذه الإعلانات الذكية الراقية و المتحضرة - بصرف النظر تماما عن مدى جودة منتجهم الفعلية - رسالة مفادها
:
( منتجنا لا يعمل على تحسين ملابسكم فقط ، بل يهدف إلى هدف أسمى : و هو تحسين حياتكم كلها ، و تحسين شخصياتكم و إحساسكم بأنفسكم ، و إلى نشر الحب و المودة في حياتكم )
----------------------------------------------------
ماندولين -- كانت تلك الشيكولاته أحد حلواي المفضلة لفترة طويلة --- حتى ---------------------
اممممم
حتى قاطعتها متعمدة
و السبب في ذلك هو إعلاناتها المستفِزة المُغرِقة في الغباء
لا --لا
ليست من تلك النوعية المعتمدة على التعري
أو المعتمدة على الرقص و ( التنطيط ) لبضع فتيات
و الذي جعل البعض يقاطعون مشروب " فيروز " لفترة ، قبل أن تغير الشركة المنتجة قليلا من إعلاناتها
إعلانات " ماندولين " معتمدة على ما هو أخطر و أكثر إستفزازا من هذا
:
على ترسيخ قيم سلبية في وعي المتلقي ، بل و الحَث عليها في سبيل متعته
ففي أحد إعلاناتها ، يترك ( المأذون ) الفرح و العريس و العروس و المدعووين يضربون أخماسا في أسداس ، و قد اعتلى وجوههم الإحباط ، بينما يختلي هو ب ( ماندولين ) مستغرقا فيها ، يأكلها في لذة و استمتاع ضاربا عرض الحائط بواجباته و التزاماته
( لاحظو أيضا ما لهذه الإعلانات من دلالة شبقية مُضمَنة )
-----
و في إعلان آخر يظل الولد ينادي على المسرح
:
( جولييت -- جولييت --- جوليييت )
بينما ( جوليت ) هانم ليس على بالها لا زملائها على المسرح ، و لا الجمهور الجالس في الصالة ، و لا إمكانية فشل العرض المسرحي كله
لا يهمها سوى ال ( ماندولين ) بيدها التي ( تسرح) مع وجودها تماما
( أهو الإعلان ده بالذات غاظني جدا ، و أنا أتخيل نفسي أحد الحضور من الجمهور )
--------------------------
كان هناك أحد الإعلانات أيضا عن أحد أنواع الأيس كريم يسير في نفس الاتجاه
كان لحارس شخصي يقف حارسا لسيارة ، ثم يأتي بالأيس كريم ، و ينغمس تماما في أكله ، بينما يستطيع اللصوص سرقة السيارة التي يقف أمامها مباشرةً دونما أن ينتبه أو يستطيع لها حماية / كما كان ينبغي له أن يفعل
-------
إذن
تمرر هذه الإعلانات رسالة مفادها
:
( منتجنا سينسيك الدنيا بجودته --- و من هذه الدنيا التي يُنسيك إياها : عملك ، هواياتك ، التزاماتك ، مسؤلياتك )
و بالتالي تُكرس هذه الإعلانات لقيم اللامبالاة ، الأنانية ، إنعدام المسؤلية ، و الفشل ، من أجل " الشراهة " ، أو " الحب المرَضي للأشياء " التي هي قيم سلبية بحد ذاتها
-----------------------
هاتان النوعيتان من الإعلانات هي في واقعها / إضافة إلى ما تحمله من قيم إيجابية أو سلبية / تعبير عن الحب بصورتين أو نوعين
:
أحدهما صورة صحية إيجابية مثمرة
و الأخرى صورة مريضة سلبية مثبطة
ففي إعلانات المسحوق --- نجد الثقة في الطرف الآخر أخذاً و عطاءاً
نجد التقبل -- المساندة
نجد الوجود المستمر الأساسي للآخر / الأم ، أو الزوجة في حالتنا هذه / رمزا ً مشجعا على خوض الحيا ة و النجاح فيها حتى في ظل غياب هذا الآخر المادي في الصورة ، فهو في خلفيتها دائما
بينما نجد في الإعلانات الأخرى للشيكولاتة و الأيس كريم الصورة النمطية لمعنى الحب ، و الذي نجده باستمرار في المسلسلات و الأفلام و الأغاني العربية ، و الذي يعتمد على الهيمان و التسبيل و نسيان كل شيء : الآخرين ، المسؤليات ، العمل ، و حتى الذات نفسها -- نسيان كل شيء إلا وجود المحبوب أو صورته في الخيال
بطريقة :
( يطلب أبويا القهوة
أعمل شاي و أديه لأمي )
و يشكل الابتعاد عن هذا المحبوب أزمة و مشكلة تتوقف الحياة عندها
فقد أصبح هو الهواء الذي يتنفسه حبيبه ، و الماء الذي يشربه ، و الشاي و السحلب و الكركديه و الذي منه
:)
أتمنى أن نستطيع الحب بطريقة " تايد " ، لا بطريقة " ماندولين "
(:
هناك 11 تعليقًا:
صراحة اقف مشدوها متعجبا من وجهة التظر الاخري والتي اكتشفها دومع قرائتك وفهمك للاشياء
.
.
لك مني كل تحية والسلام
مش عارفه ليه يا شغف حاسه انك مديه الموضوع اكبر من حجمه يعنى مظنش نهائى ان اللى حاطط الكام اعلان الحلوين دول كان حاطط فى دماغه كام وجهه نظر انتى زكرتيها
ولا اللى عمل الاعلانات اللى معجبتكيش برضو كان حاطط فى دماغه كل المساوىء اللى انتى اتكلمتى عنها
بس ده ميمنعش ان كلامك عجبنى وعجبنى جدا كمان عشان انا بحب الاعلان بتاع الواد ابو تحفه فنيه ده
اللى انا استغربتله ومتهيالى مكانش المفروض استغربله ان فى مدونه اسمها ايومه تقريبا كتبت عن الموضوع ده وكانت بتعرض فى وجهه نظرها عنه ان الاعلانات هايفه لدرجه كبيره وانهم بيضحكوا علينا وعاوزين ياكلونا الاونطه بالعافيه
دمتى مختلفه
آدم المصري :
يا هلا في أي وقت
كرانيش :
و لا أنا أظن برضة :)
بصي يا كرنوشة
مش دايما اللي بيعمل عمل فني ما ( و خلينا نتكلم عن الاعلانات من نقطة مضمونها الفني اللي بتحاول ( تأكلنا الأونطة ) لأن هيه دي الوسط اللي المفترض انه يأثر علينا كجمهور )
يعني
بمعنى تاني
على اعتبار انهم بيستخدموا أسلوب درامي معتمد على قصة ما أو موقف ما بيقدموا من خلاله الإعلان
اللي يهمهم فعلا إنهم يقدموا حاجة جديدة تلفت الأنظار للإعلان ، و تحاول تقنع المستهلك إنه يشتريه
ده الهدف الوحيد تقريبا اللي بيبقى في دماغهم
لكن
أي حد بيعمل حاجة
سواء بقى فيلم أو أغنية أو إعلان
غصب عنه بيستخدم مجموعة من القيم بتشكل حياته هوه الشخصية
و بالتالي بتنتقل مجموعة القيم دي
و اللي بتشكل رؤية للحياة كلها / أو جزء من الرؤية دي / للعمل اللي بينتجه
المسألة مش بتتوقف على كلمات ، وإضاءة و تكوين صورة ،و إخراج ، و تمثيل ، و إيرادات و كده
لكن لما يجي المستهلك مثلا ، أو المشاهد ، أو المتلقي يتعامل مع ده ، مش بيقتصر تأثره على كونه يعجب بالاعلان و يشتري السلعة يجربها و لا لأ و خلاص خلصت
لكن فيه حاجات بتتسلل ليه و تشكل جزء منه بالتدريج
و بالالحاح اللي بتتعرض بيه إعلانات زي دي
و غير كده أصلا
الاعلانات دي بتديكي رؤية ما لوجهات نظر و أساليب حياة موجودة بالفعل
( انتي صحيح انضميتي لقبيلة " دمتي " ؟ :) )
تدوينة ممتعة جدا يا شغف
للصدفة السعيدة : آخر تدوينة ليا كانت عن فن الإعلان
مبسوط جدا إني لقيت حد منتبه بشكل حقيقي للفن ده
أنا أول مرة أقرا مدونتك , بس هل إنتي بتشتغلي أو درستي إعلام ؟
لو قسمنا الاعلان الي اعلان طيب واعلان شرير
طيب تفتكري اعلان ميلودي بتاع بوبي وصاحبها يندرج تحت اي تصنيف
وبتاع دانا
ومامانحله عشان تجيب العسل ده كله؟؟
مش يتهيألي جرائم يعاقب عليها القانون؟؟
ده عاوزة بوست لوحده
اهلا العوده للكتابه
تحياتي
رائع بحق!..أردت التصفيق على هذا المقال الرائع :)
محمود عزت :
أنا دراستي آداب انجليزي
و شغلي مكتبات
ماليش في الإعلام خااالص يعني :)
بنت القمر :
مش ينفع نقسمها لإعلان طيب و إعلان شرير
بس ممكن جدااا نقسمها لإعلان ذكي ، و إعلان غبي
و ممكن تقري في دي تدوينة محمود عزت الأخيرة اللي لسه متكلم عنها
هتلاقيها هنا :
http://nournour.blogspot.com/2008/02/media-media.html
و ممكن نقسمها برضة لإعلان مستفز و إعلان جمالي و ممتع
و يمكن النوعية اللي اتكلمت عنها تندرج تحت الاتنين دول بالأساس ، غير طبعا نقطة القيم اللي ورا الإعلان
ممكن كذلك نقسمها نتيجة لكده
لإعلان ناجح ، و إعلان فاشل
أحمد نصر :
شكرا
مذهل يا بنتي
تحليلك للأمور
:)
عجبني اووي ومتفقة معاكي
ألف حمدلله ع السلامه :) من الصبح عاوزه أعلّق بس فيه مشكله فى فتح صفحة التعليقات :(
التدوينه ممتعه للغايه يمكن لأنّى من محبّى الإعلانات الذكيه التى تحمل فكره بغض النظر عن ارتباط الفكره بالمنتج المعلن عنه !! أن يكون للإعلان فكره أو قيمه إيجابيه يحملها إليك شئ جميل خصوصا فى ظل ندرة الأفكار الجيّده للإعلانات المنتجه فى عالمناالعربى بشكل عام ..
كلامك عن المعنى الإيجابى الذى تحمله إعلانات "تايد" مثلا ذكّرنى بإعلان "موبينيل" الذى كان يحمل معنى تستطيع أن ترى لحظات هامّه جدّا فى حياتك حتى لو كنت بعيدا مثل الأب الذى يرى طفله الوليد أو ذلك الذى يرى الخطوه الأولى لابنه لأنّها بالتأكيد -وحتى لو لم تستخدمى الخدمه المعلن عنها- ستقدّرى كمشاهده هذه اللحظات و ستشعرى بقيمة ما ينتج عنه ..
ماتبقيش تطوّلى الغيبه :)
اول زيارة ليا
مبسوطة جدا انى اتعرفت على مدونة
مختلفة بالفعل
تحياتى على وجهة نظرك
خاصة فيما يخص تايد
محبتى
تسنيم :
شكرا يا قمرة
زمان الوصل :
أه ، فكرتيني بإعلان كنت بأحبه جدا برضة ، كان عن كاميرا فيديو ، لما الطفل قدر ينطق في غياب والده ، و جه و شافه -- كان إعلان مذهل الصراحة
طيبة :
شكرا :)
إرسال تعليق