بالعكس بالعكس بالعكس ...
1)
سر الثلاثة أيام
كانت الفتاة البولندية غاية في الغرابة.. كانت تضحك أو تبتسم عند كل ألم أو حزن:
عندما ضربها أخوها الصغير
ذات مرة، عند موت الجدة الأثيرة لديها، عندما سقطت على زجاج مكسور جرح ذراعها جرحا
بالغا وجرى منه الدم كثيرا حتى كادت تفقد حياتها..
أما عندما كان يعطيها أحدهم
قالب الحلوى الذي تحبه أو يدغدغها أو يلاعبها، فقد كانت تبكي، أو تصرخ فزعا، أو على
أقل تقدير تظهر تقطيبة في غاية السوء .
اجتمع العلماء وانفضوا
قائلين أن أعصابها معكوسة، وأنها الحالة النادرة الوحيدة التي وجدت – أو التي وضعوا
أيديهم وملاحظتهم عليها في التاريخ – لهذا الخلل الفسيولوجي.
كان هناك خلل ما فيّ أنا
أيضا: لا أحب الكذب، لا أحب المجاملة أو المديح، يبهجني الصدق والصراحة حتى لو كانا
جارحين أو يمسان تصرفاتي بقدح أو انتقاد، أفزع عند تفاخر الفتيات بمهورهن وما جاءهن
من هدايا، وأرى في فكرة "المهر" نفسها تثمينا وتسليعا لا أقبله على نفسي
ما ضخم منه وما صغر..
ولا أحب المفاجئات الاحتفالية،
وللدقة: أكرهها.
اجتمع الأصحاب والمعارف
والأصدقاء معا دوني.. لثلاثة أيام شعرت أن هناك مؤامرة تحاك خلف ظهري.. لثلاثة أيام
شعرت أن الجميع متحد ومتسق وهناك سرٌ ما يجمعهم كلهم يشيرون إليه من بعيد، وتبرق أعينهم
له دون مشاركتهم إياي.. حاولت تخيل الأفضل، وأن هذا الأمر يخصهم بشكل شخصي، وسيطلعوني
عليه في الوقت المناسب وعليّ أن لا أكون فضولية أو أتدخل في حياة الآخرين حتى لو كانوا
لي أصحابا..وماذا لو كانوا هم أقرب إلى بعضهم مني؟ يرتاح الإنسان بشكل تلقائي إلى شخص
أكثر من شخص.. هذا طبيعي وعلي ألا أغضب إذا ما كنتُ أنا ذلك الآخر بعد حرف "من".
حاولت إقناع نفسي، فاقتنعت، لكنها لم تستطع منع
تلك الغصة وذلك الشعور بالوحدة والعزلة،
حتى صرت أشعر بنفسي عبئا ووجودا زائدا عن الحاجة .. لثلاث أيام كنت أعاني وحدي ..
ثم:
"هيييييييه !! سنة
حلوة يا جمييييل ... "
كنتُ أنظر لهم في صدمة
ووجوم وضيق حقيقي.. وربما غضب أيضا..ألهذا "الخراء" المستنسخ المدعو عيد
ميلادا عذبتوا مشاعري لثلاثة أيام؟ ألهذه "التورتة" التي لا آكلها من الأصل،
وهذه المياة الغازية التي تمرض معدتي، وهدايا المناسبات التي لا أحبها، والكلمات المكرورة
المعادة المبتذلة للجميع بنفس الصيغ ونفس الأسلوب؟
هل من المفترض فعلا أن
أصدق أنهم فعلوا هذا من أجلي وأمتن له؟ أن يفعلوا لي كل مالا أحبه، ويقولون لي بشكل
واضح أنهم لا يعرفونني حقا ولا يهتمون بمعرفة ما يهمني أو يسعدني حقا، بل يحتفلون بي
إدعاء في إدعاء؟
كان الجميع أقرب إلى بعضه
مني ... فالسر يجمع ناسا ويعزل ويبعد غيرهم .. هل أدركوا المسافات التي ابتعدوا فيها
معا دوني وتركوني أنادي أو أتلمس صحبة دون مجيب خلال الفترة الماضية؟
لم أقل أي شيء.. لكن وجهي
وتعبيراته المتضايقة قالا الكثير، فحل الارتباك، ومضي بقية اليوم سيئا على الجميع،
وبخاصة على المتحمسين الأوائل لفكرة "مفاجئة عيد الميلاد"..
وعلى الرغم من بهجة الجميع
– أو ادعائهم البهجة – يوم عيد ميلادهم ومفاجئات أصحابهم وكلماتهم المتوقعة، إلا أني
قررت عدم مشاركة الاحتفال بعيد ميلاد أحد منذ ذلك اليوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق