السبت، مايو 28، 2016

لا أسرار غير عسكرية (أبي وأمي)


معضلة محيرة هي المفاضلة بين "طقس الاعتراف أوالبوح" وبين فكرة "الاحتفاظ بالخصوصية" ... 
تلك المعضلة التي صاحبت بدايات الكتابة على البلوج ... 
"شغف" اخترت اسما مغايرا لاسمي الحقيقي، كما كانت العادة سائدة في البلوجات... لكن عندما طرح الأمر بين بعض زملائي وأصحابي ببساطة قلت لهم اسم البلوج واسمي التدويني... وشعرت بأنه ذنب كبير بأن يكون اختياري لاسم استعاري هو مجرد حيلة لإخفاء شخصيتي وكينونتي الحقيقية ... لأستطيع الكتابة بحرية عن أدق خلجات نفسي وأفكاري ومشاعري مهما تكن دون أن يعرف الآخرون أنها أنا ! 

لم تدم الفكرة في رأسي لأكثر من ثانيتين لأنفضها فورا ... فأنا ما أنا عليه، وفي إخفائي وإدعاء أخرى كذب ... في محاولات الإخفاء المتعمدة كذب .. وكان الاسم فقط هو محاولة للاختيار .. محاولة لاستدعاء مايبهجني ويجعلني أرتفع للسماء في اسم..

في إحدى المناقشات بيني وبين صديقتي أيام ثانوي، توصلنا لمبدأ مفاده أنه لا يوجد أسرار إلا "الأسرار العسكرية " لدى الدول ... أما فيما عدا ذلك، فالسر عبء ودليل على عدم التوازن النفسي غالبا ... 
لا أعرف ماذا كانت أكلمت حياتها تبعا لذلك المبدأ الذي صككناه يوما أم لا، لكني أحاول دائما.. 

في أحد البوستات الغاضبة منذ حوالي الست سنوات، وفي إطار حملة "كلنا ليلى" ، كتبت بغضب عن تفاصيل تخص علاقتي بعائلتي وبأبي... 

بعد كتباتي للبوست بوقت، وبعد انحسار الغضب، وبعد تتالي التعليقات .. بدأت أشعر بالخجل ، والعار... وباهتزاز صورتي جدا لدى الآخرين - خاصة من يعرفونني - وبأني مستهجَنَة وشوهت "احترام" صورتي .... مشاعر سلبية كثيرة أحسستها جعلتني أراني ضئيلة (أو أرى ضآلتي في عيون الآخرين لتنعكس إليّ) .. درجة أن فكرت في حذف البوست أو إخفاؤه ... لكني لم أفعل طبعا ... فلا أسرار ولا ادعاءات ... وعليّ أن أقبل سلبيات شخصيتي وسلبيات حياتي كي أستطيع تجاوزها ... 

وفي الواقع، كان لهذا تأثير السحر على حياتي فعلا ... فقد استطعت المضي قدما ... وهناك أشياء عديدة تغيرت في تفكيري وتصرفي وحياتي بشكل عام بعد تلك الانفجارات الغاضبة على البلوج بعيدا عن الصورة اللطيفة العاقلة الوقورة المهذبة التي تؤخذ عني عادة في الحياة الواقعية ... 

******** 

* زماان وأنا صغيرة، كنت أعتقد أن كل العائلات عائلات مثالية يسودها التفاهم والحب والمساندة ، وأن عائلتنا فقط هي ما يسود داخلها الجدال والغضب والصوت العالي ... كنت أشعر بالخزي ...  
وكان يدهشني جداا أن أبي بالنسبة للآخرين هو شخص لطيف دمه خفيف حلو الصحبة يؤمن دوما الأغذية والمشروبات للطريق ويلعب مع الجميع في البحر ويسدي بنصائحه الحكيمة لأطفال ومراهقي العائلة ... 
وأمي تلك السيدة اللطيفة الودودة جدا الاجتماعية الكريمة المرحبة بالآخرين التي يحبها الغريب قبل القريب ... 

ولا أعرف كيف يتحول الحال هكذا وتسود المجادلات التي تكررت العديد جدا من المرات بذات تفاصيلها منذ أن كنت صغيرة وحتى بعد مرحلة الجامعة ، والتوتر داخل المنزل ... درجة أني كنت أسخط على أمي أنها لم تُطلَق من أبي - معظم سنين حياتي - ومؤخرا بدأت أسخط على أبي أنه لم يطلق أمي ... 


لم أكن أحب أن أتحدث عن عائلتي ... كان بعض الزميلات يتحدثن عن عائلاتهن بحب أو فخر أو حتى بشكوى أحيانا ... لكني لم أستطع... فكل العائلات متوادة ومتوائمة ومثالية - في نظري أيامها - إلا عائلتي ... 

فقط مؤخرا - منذ بضع سنوات قليلة - بدأت تذهلني الاكتشافات : 
- عدم الوئام وعدم التفاهم طبيعي جدا داخل معظم العائلات... وخاصة تلك التي "تبدو" مثالية ... 
-  عائلتنا تعتبر حقا جيدة أو "معقولة" بالنسبة للكثيرين 
- دخلت بيت إحدى زميلاتي التي كانت تتحدث بمثالية جدا عن أبيها وأمها وعلاقتها بكل منهما ... وفوجئت بشكاوى أمها منها وتفاصيل كثيرة كانت تقولها هدمت الصور المثالية التي كانت ترسمها الزميلة لبيتها وعائلتها ... مما جعلني أدرك كيف أن الكثيرين يرسمون الادعاءات ويعيشونها ... وأنا ظروف حياتي كانت مثالية جدا لرسم الادعاءات على المستوى الاجتماعي والأسري.. لكني فقط لا أفعل هذا بل أسعى لتدميره رغبة في الصدق... بينما الطبيعي في مجتمعنا هو "الادعاء" ولا شيء إلاه! 
- .. بدأت أتفهم أن أبي وأمي فعلا شخصين لطيفين ومن الممكن أخذ الجيد فيهما، لكن كان من الأفضل لو تزوج كل منهما شخص آخر ... فكميائهما ليست متوافقة ...

- على الرغم من أني طوال عمري - باستثناء آخر 3 سنوات- كنت آخذ صف أمي على طول الخط، وكنت أستنكف أن أشابه أبي في شيء (ففي قاموس أمي : تشبه أباك = متحجر القلب) ... إلا أني أحمد الله حقا أني أشبه أبي أكثر من أمي ... أبي عملي ، منطقي - حتى وإن قاومني وقال لي أني أتفلسف وأعقد الأمور - لكن في أحيان كثيرة هو لديه منطق بسيط يتحدث من خلاله ... أبي لايجامل ، مستفز أحيانا ... لايحب الشكوى ... لايحب الكذب ... 
أما ما أخذته من أمي فهو حساسيتها الزائدة والتأثر الزائد - ولو كان وقتيا - 

*************

رأيت الموقف بأكثر من تجلي له على مدى سنين عمري: 
* يكذب الأب أو الأم أو الرئيس ... يقول الابن أو المواطن أنه يكذب ... يقال له "اسكت يا قليل الأدب عيب تقول كده على باباك " 

لأدخل إلى الحيرة : هل العيب هو وصف أحدهم بالكاذب أم العيب هو أن يكذب هذا الشخص أصلا؟ 

هل الكلمة هي الحجر الذي تم إلقاؤه؟ أم المصيبة في فعل الكذب الذي يغير الحقائق وقد يودي بمصائر البعض أو حيواتهم؟ 

هل الخطأ أن أتحدث عن مشكلات حياتي الشخصية ؟ أم أن الخطأ أن تكون هناك مشكلات بهذه الحياة تحتاج إلى تصحيح؟ 

ولماذا يخشى الناس عادة من افتضاح مشكلاتهم ومساوئهم وعيوبهم؟ لماذا يصرون على التخلي عن "بشريتهم" والاختباء وراء صور مثالية مدعية ؟ 

هل المشكلة أن أتحدث عن مشاعري السلبية اتجاه أهلي؟ أم أن تأكل تلك المشاعر في روحي وعقلي وأحيا بذلك الشعور بعدم الراحة وعدم التواؤم المسكوت عنه؟ 

******************

* أعتقد أنه عليّ مواجهة مشاعر الخزي والخجل والعار التي يحمل كل منا قدرا منها داخل روحه منذ أن كان طفلا صغيرا ... ببساطة نحيا في مجتمع غير صحي وغير متوازن نفسيا (خاصة بوحدته الأساسية : الأسرة) ... وكل منا يحمل مشاعر سلبية داخله ... 
وأعتقد أن أقصر الطرق للتخلص من المشاعر السلبية هو مواجهتها والبوح بها في محاولة لإدراك جوانبها المظلمة وتنظيفها . 

****************
ملاحظة أخيرة: 
أنا سعيدة لمعاودة الكتابة هنا هكذا مرة أخرى. 

ليست هناك تعليقات: