بعد أمسية غير موفقة تماما في "فينواز " ، وجدت نفسي تتسلل إلى مكاني المفضل : "التاون هاوس " ، فساحة روابط التابعة له ...
"زوروا غزة " ... دعوة تبدو غامضة و هي تحمل النقيضين : المعنى الـ" ترفيهي الاستمتاعي " فيما تحمله دعوة الزيارة ، و المعنى المعرفي الذي توحي به كلمة "غزة" و ما يرتبط بها دائما من حرب و حصار و دمار ...
" هل حلمت يوما بزيارة شواطيء غزة الخلابة؟ سؤال يبدو سورياليا مهما كان السياق . كلمات مثل "زيارة" و "شواطيء" و "خلابة" - بل و حتى كلمة "حلم" قد تبدو شاذة حين يظلها اسم تلك المدينة الساحلية الصغيرة في نفس العبارة . " .... هكذا يكتب "محمد عبد الله " في برشور المعرض الذي يحمل صورة "سياحية" لشاطيء غزة ..( النص في ذاته و البرشور جزءان مهمان جدا من الحدث : "زوروا غزة " )
لم أشاهد من المعرض ككل سوى لوحة نسخة الحمار الوحشي في مدخل المعرض ، و التي بالتأكيد شاهدتها في أحد المعارض الأخرى ( لا أتذكر تحديدا ما إذا كان في قصر الفنون في الأوبرا ، أم في بينالي الأسكندرية الماضي أم في أحد معارض التاون هاوس نفسه ) ...
ذلك الحمار الذي تم تخطيطه و رسمه ليبدو حمارا وحشيا لأطفال غزة الذين لا سبيل أمامهم للتواصل مع متعٍ بسيطة من العالم سوى تقليدها ، و إيهام أنفسهم بأنها حقيقية !
و بالطبع ، شاهدت "شتاء غزة " ... و لهذا تحديدا أكتب الآن
شتاء غزة عبارة عن 10 أفلام قصيرة لمخرجين فلسطينين في فلسطين و لفلسطينيين و غير فلسطينين حول العالم ...
غزة ، رام الله ، مرتفعات الجولان ، أسبانيا ، أيسلندا ، بلجيكا ، لندن ، الأردن ، و الولايات المتحدة ... كلٌ يقدم القضية بطريقته ..
"شتاء غزة" هي الزيارة المعرفية المعتادة لما يحدث هناك ...
و مشكلتها دوما أنها " معتادة "
فالأفلام في معظمها لم تخرج عن مشاهد القصف ، و المظاهرات ، و الأشلاء ، و الأطفال الممزعة الأطراف أو القتيلة ...
كنتُ أفكر في أن المشاهدة المستمرة لتلك المشاهد لم و لن تجعل العالم أكثر تعاطفا مع ما يحدث ، بل ستجعله دوما أكثر إعتيادا ، و أكثر لا مبالاةً و أكثر تقبلا أن يحدث هذا ...
و يوما وراء يوم يصبح جسد الطفل الفلسطيني كجسد قط ميت ملقى في الطريق ، قد يثير بعض التقزز ، لكنه لا يثير تعاطفا أو إحساسا ...
و تذكرت فورا ذلك الفيلم :
The Pianist
لـ رومان بولانسكي
و كيف كان الفيلم عاليا جدا فنيا و غير صارخ و غازلا لمعاناة الموسيقي اليهودي بحرفية بالغة في عهد النازي ، ليجعلنا جميعا نتعاطف معه بعمق و نكرة النازي و قسوته و الحرب و دمارها
بينما تُصور الأفلام عن معاناة الفلسطيني بشكل صارخ فج فجاجة الحرب ذاتها ، و فجاجة فجاعة الفقد و صراخ الموت ... بذات الشكل المعتاد لنشرات الأخبار التي من المعتاد أن نتناول طعامنا أحيانا و نحن نشاهدها كفواصل في إنتظار فيلم أو مسلسل قد يأتي ...
الفيلم الوحيييد الذي نجا من فخاخ الأصوات العالية الزاعقة لدرجة الإملال ، و إحتمى بالفن ليقدم تفاعلا حقيقيا و رؤية صادقة و تماسا إنسانيا رائعا ، هو الفيلم الأيسلندي : الحرب عن بعد ، أو الحرب البعيدة : War Far Away
للمخرج : فهد جبلي
ليقدم لنا مشاهدا حياتيه للمواطنين في أيسلندا : أم تأخذ طفلها للحضانة ، شاب يركب مع أبيه السيارة و يحدثه أبوه عن وجوب الاستمتاع بالحياة ، مجموعة عمال يعملون ... إلخ ... و على الجدران التي تحتوي تلك المشاهد صورا صامتة .. غائبة حاضرة لما يحدث هناك في نفس اللحظة ... في نفس الأماكن ...
=================================
بمناسبة التاون هاوس ...
أحد الأحداث التي ينظمها في هذه الفترة هو "كورال شكاوي القاهرة " :
" من سنة 2005 الناس في أنحاء العالم خلو شكوتهم مسموعة من خلال الأغنية، ويسر جاليري التاون هاوس انها تقدملكم كورال شكاوى القاهرة.
يا أصحاب الشكاوى من كل حتة في القاهرة تعالوا غنوا شكواكم .. مفيش اختبارات! تعالوا بآلاتكم وأصحابكم وأهم حاجة شكواكم. "
هكذا يقول نص الدعوة لـ حدث كورال شكاوي القاهرة ...
منذ عدة أيام ، و أنا أسير في شارع القصر العيني ، أمام العمال المعتصمين أمام مجلس الشعب الممسكين ميكروفونات مرددين نداءاتهم المنغمة و شكواهم و طلباتهم ... فكرتُ جديا : هل يمكن أن يذهب هؤلاء ليغنوا شكواهم في التاون هاوس ؟ بدا سؤالا عبثيا ، و لا أعرف لماذا ... و أخذت في التساؤل عن "جدوى" الغناء و الفن بشكل عام أمام القضايا المهمة و أمام سعي الإنسان للحصول على حقٍ ضائع أو مهضوم أو للوصول إلى شيء يعتقده من حقه ... هل يفرغ الفن الطاقة في هذه الحالات ، ليمضي المرء دونما إشباعٍ لمطالبه إلا بشكلٍ رمزي من خلال الفن ؟ أم أن الفن ، و الغناء ، و محاولات التعبير عن الحقوق بكل الأشكال المختلفة حتى الشكل الفني ، و في التاون هاوس ، يعطي طاقة أكبر و حشد أكبر للمتابعة ؟
هل لو كنت كتبت لعمو الممسك بالميكرفون ورقة فيها تفاصيل كورال شكاوي القاهرة ، و لو كنت قلت له : خذهم و اذهبوا لتدريبات التاون هاوس ليلا لتغنوا شكواكم أمام الجماهير ... هل كان سيسخر مني - كما سخرت أنا من نفسي وقتها و من الفكرة ؟ أم كانت ستكون منفذا جديدا لاستمرارية المطالبة بالحق ؟
الحدث على الفايس بوك :
http://www.facebook.com/?page=1&sk=messages&tid=1474341102631#!/event.php?eid=118714874825038&ref=ts
=================================================
أثناء تجوالي بين قاعات العرض في أتيليه القاهرة - ذلك المكان الذي أحبه هوه أيضا و أتسلل إليه كل فترة و أخرى - توقفت في قاعة تعرض صورا فوتوغرافية لمجموعة من الشباب ( شابات في معظمهم أصلا ) مأخوذة في الواحات ... ما جعلني أتوقف و أستمتع حقا بوجودي هناك ، هو تلك السيدة اللطيفة الزائرة التي أخذت في مشاهدة الصور و محاورة أصحابها و الحديث معهم عن القيمة ، الفن ، الجمال .. و عن كيف أن الصورة تأخذ بيد الإنسان و تجعله يقلدها في حياته ...
ثم أخذت في التدقيق في بعض اللوحات و التساؤل المتحمس المتفاعل عن كيف تم أخد بعض اللقطات و أين أُخذت ، إلخ
و تذكرت بعدما خرجت من المكان أن أفضل المرات فعلا التي استمتعت فيها بوجودي في مكان هي تلك المرات التي صادفت فيها أولئك المتحمسين المتساءلين الشغوفين بالفن أو المعرفة الذين يحاولون إقامة تحاورات ما مع الأعمال ، مع البيئة المحيطة ، و مع الوجود البشري المتواجد ...
أتذكر مثلا أني زرت أكواريوم الأسكندرية عدة مرات ، و كذلك زرت قلعة قايتباي عدة مرات ، لكن ما يعلق من ذهني من هذه المرات ، هو عندما صادفت تلك الأسرة التي كانت تتعامل مع الأشياء بتقدير حقيقي و بإندهاش و تساؤل حول أجزاء المكان و تفاصيله و كيف تم بناؤه و الجمال فيه و القيمة الوظيفية له أيضا ...
أو تلك المرة التي صادفت فيها أناسا عندهم الجرأه الكافية ليتساءلوا عن معنى الفن أو جدواه ، أو تتم محادثة شيقة جدا أمام اللوحات و ما قد تعنيه أو توصله أو مقصد الفنان منها ...
تلك المصادفات الموضوعية التي تضيف النكهة لا لليوم فقط ، بل تبقى كأثر ممتد في الذاكرة عن لحظات مميزة ...
خاصة في عالمٍ لم يعد يتساءل فيه الكثيرون عن معنى شيء أو جدواه أو قيمته ....
و لم يعد يندهش فيه أحد .
هناك تعليقان (2):
و هل حضرت في النهاية لعرض الشكاوى المغنّاة؟؟
أعتقد أن للفن جدوى كبرى، ففي التعبير بشكل فني يتشارك مجموعة كبيرة من العارضين و المتفرجين في لحظة صدق (إن كان الفن المقدّم جيداً)
و هذا في اعتقادي يصنع فارقاً حقيقياً...
في ذهن و نفس العارض كما المتفرّج.
المشاركة هي الأهم.. تغيير إحساس الفردالمغترب ليشارك الآخرين أفكاره. الفن حوار مستمر..
الكلام شكله كدة كبير قوي.. و ماينفعش يتكتب في تعليق على نص.
بس على كل حال، المدوّنة هايلة.
سلام
للأسف لم يسنح لي الوقت بحضور البروفات الأولى لهم .. لكني أنوى حضور العرض الأخير ...
أتفق معك تماما فيما قلت بشأن الفن ... و لا شك لدي في جدواه أو قيمته أو الفرق الذي يصنعه ...
لكن الفكرة كانت متركزة في حل المشكلات الواقعية للبشر ...كالمثال في هذا الموضوع : عمال يطالبون بصرف مرتباتهم المستحقة منذ أكثر من شهر .. هل الفن سيساعد في حالتهم إذا ما وجهوا بعض طاقتهم له ؟ أم سيكون تسريبا لطاقتهم تلك التي ينبغي لها مناصرة مطالبهم و التوجه كلية لها ؟
إرسال تعليق